"إذا قابلت ذاتك المضادة، لا تصافحها، فقد
تتلاشى في وميض ضوئي كبير".
عبارة ستيفن هونغ هذه أطارت صوابه، جعلته يترك
البيت على الفور، خوفاً من ظهور مباغت لذاته وملاقاتها.
نبهته إلى أن التركيب الفيزيائي للبشر يقوم على
نفس القانون الثنائي، الإنفجاري، الذي يتحكم بعناصر المادة، والذي تصاغ بموجبه
نهايات كل الأشياء، بما في ذلك وجود الإنسان، وأن الجزء الآخر، المضاد، من كل شخص
يدور حوله، ويترصده، يتابعه في كل لحظة، ينتظر فرصة موآتية ليلتحم به في عناق لا
يخلف غير وميض يتلاشى على أثره في أبدية مبرمة.
ما رَوّعه أكثر من أي شيء آخر، أنه يكتشف هذه
الحقيقة المهلكة الآن فقط، بعد أن أمضى كل حياته غافلاً عمّأ يتربص به، غير محترس
من جزئه الآخر، ذاته المضادة، ولم يكن يعرف المدى الذي تبتعد عنه أو تقترب منه!
ينتقل من شارع إلى شارع، يضرب على وجهه في الأسواق، يقتحم المقاهي،
يصفق خلفه الأبواب، غير قادر على اختيار وجهة بعينها، يهرب فحسب من جزئه المضاد.
يتساءل، وهو يتلفت في كل اتجاه: بأية هيئة تظهر
الذات المضادة، أبهيئة شخص آخر، أم ككيان لا مرئي، أو مثل غلالة شبحية، أم كضربٍ
من ريح لولبية متحرقة للإنفجار؟
يدرك، ويا للفزع، أنه بهذا التحرك الأهوج، إنما
يركض أشبه بضحية عمياء بين فخاخ لا تفصح عن شكلها.
لكن، من يطارد من في العادة، الإنسان الأصل أم
ذاته المضادة؟ هذا رعب آخر، جعله يتجمد في مكانه، إذ خشي أنه يندفع مثل طريدة
أربكها الجزع، تهرع، بلا وعي، نحو صيادها!
الفراغ يخيفه، لأنه قد يسهّل إنجذاباً مباغتاً،
ينتهي خلال لمحة خاطفة بعناق برقي ماحق، والناس يضايقونه، لأنهم يشكلون، بدورهم،
ثنائياً من ذوات متعاكسة، ويحملون إنفجاراً ووميضاً قد يحث في أية لحظة.
يلزم مكانه لوهلة، يفكر فيما عساه يفعل، تسحقه
الحيرة، فيتابع هربه ويده مخبوءة في جيبه، تقبض بعصبية على كتاب هوكنغ الذي شطره،
ببضع كلمات وليس بسيف قاطع، إلى قسمين لا يهتدي أي منهما إلى الآخر.
يبحث بين تلافيف الذاكرة، عن الآثام التي جعلت
ذاته تنفر، وتقف على الضفة الأخرى، حردة، متمردة، ساخطة، تراقب ما يحبكه العقل
وتأتيه اليدان، لإشباع أطماع النفس وإرضاء أنانيتها.
يتهالك على الأرض، يسند ظهره إلى جدار، يغرق في
التفكير، يتفحص، هلِعاً، التشوش الذي هز حياته على حين غرة. لقد وضعه كتاب صغير،
عن عناصر المادة والمسافات الضوئية،
أمام حقيقة مذهلة، جعلته يهرع إلى الطريق في أول الليل، مخلفاً ولديه وزوجته وشقته
الوادعة، باحثاً عن مهرب، جاراً خلفه ملايين السنين من الضباب.
تقول نفسه المذعورة: ولكنك لم تشهد إنفجاراً
بشرياً من قبل! ثم يمعن في التأمل فيجد الأمر والحالة هذه أكثر خطورة. إن الحياة،
يجيب نفسه، تتدبر مفاجآتها ببطء شديد.
يسترجع، وهو يعصر رأسه بين كفيه ليخلص عقله من
ثائرة الاضطراب، فقرات من الكتاب، تصف عمل الجزيئات داخل الشكل الدائري للنواة،
فينتبه إلى أن ذاته الأخرى، المضادة، تـقبع في داخله، وأن التضاد الذي يميّز
إحداهما يكمن فيما تنطوي عليه من قوة هائلة، متوثبة على الدوام للإنفجار حالما
تحتك بشطرها الآخر، ولا يتعلق الأمر، أمر الذات، بما تنزع إليه النفس من هفوات
وأخطاء وشرور، بل بما تختزنه من طاقة مكتومة وشرارة صاعقة في آنٍ واحد، ويرى، بعين
خياله، إرادته ومعاركه ورغباته وأوهامه وآلامه تنسحب جميعها إلى الداخل، تلتم،
تنقبض، تتمحور، وتتركز في نقطة واحدة كثيفة ومتناهية الصغر، تشكل الحجر المكوّن
لبنيته المادية والعقلية.
يجد، وهو في حالة كاملة من الذهول، أن هربه بلا
مخرج، لأن محنة الإنسان تتركز في هذا الإنشطار الذي يلد معه، ويلازمه إلى النهاية،
هذا الإنقسام الوطيد، الصراع الذي يتوسع ويتنوع ويفتت الكيان البشري ويفنيه ويعيده
إلى جسيمات تتسلل عبر ذرات التراب لتهيم على وجهها في فراغ شاسع.
ينهض، وقد أحس خيوط النور الأولى، المتراكضة في
الأفق، تخترق جبهته.
لم تعد السماء تقلقه، ولا الأرض تخيفه، ولكن هذه
الشحنة المظلمة التي ترقد في داخله، وتبيت له زوالاً وهجياً يجعله معلقاً في
الزمن.
يدرك، منذ الآن، أنه يمشي في مسار بلا تخوم، وأن
هربه ينبغي أن يتخذ وجهة جديدة، وفي اللحظة التالية يسمع صوتاً، يعبر سجوف الليل
الأخيرة، غامضاً وعميقاً، يصيح:
- عمّن تبحث أيها الآدمي، وسط الأضواء المندفعة،
وفي كنف الطاقات الهائلة، المضغوطة في أجسام دقيقة متناهية الصغر؟!
*
* *