قال:
لا أذكر بوضوح أسباب انجذابي إليه في
المرّة الأولى التي التقيته، لكن الإحساس يراودني، الآن، أنني وضعت نفسي ، دون
تروي، بين مخالب الشيطان.
لم تكن في شخصيته أية جاذبية، أو إيحاء
مثير بالسطوة، ولا نورانية من نوع ما، بل على العكس، كانت هيئته منطفئة، تنوء تحت
كسل ثقيل، ونظرته مرتخية، تخشى مجابهة العالم الغليظ المحيط به، إلاّ أنه عندما
يتحدث في الأدب والثقافة، أو عن الصداقة والقيم والألفة بين البشر، تتدافع الكلمات
حارة على لسانه، وتطّرد الأفكار
المدهشة في كلامه، فيتسلل إلى عينيه بريق أخاذ، يضفي على انفعاله سحراً خاصاً.
يومها كانت شهرة سارتر وكامو تطبق
الآفاق، وأخبار همنجواي، وصوره محاطاً بالنساء تتصدر صفحات الجرائد والمجلات في
بغداد.
بعد شهر من رفقتي له، ملأتُ حقيبة صغيرة
بالثياب وعدد من الكتب وهجرتُ البيت، تحت أنظار اخوتي ووالدتي المشدوهة، لأقطن
فندقاً رخيصاً، وسخاً، تلازمه عطونة تكتم الأنفاس.
قال : "الحياة العائلية تبلّد
الإنسان، تخنق في قلبه الحسّ الفطري للاكتشاف، ومن دون روح مشبوبة بالمغامرة، لن
تكون لنا معرفة عميقة بالحياة". لم تستغرق كلماته أكثر من نهار، لتولّد في
نفسي ذلك الشعور الساخط، الذي حملني على مفارقة الأهل، وعندما اكتشفت لاحقاً أنه
يستأجر الغرف لأنه قدِم من مدينة أخرى ليعمل في العاصمة، كان انسلاخي قد تمّ،
وأصبح التراجع مذلاً.
رحنا نقضي فترات بعد الظهر في التسكع
أمام محلات الملابس والزينة، وننتهي في المكتبات، وفي الليل ندور على المقاهي،
ونادراً ما نجلس فيها، كان يتعالى على ما يسميه "النزعة الشُللية" لدى
كتّابنا المحلييّن، ويفضل البقاء وحيداً، مثل الطائر المشّاي، لا يتبعه إلاّ ظلّه،
وأنا خلفهما، وعندما نحظى بشخص ثالث، نتوغل بعيداً في الشارع المحاذي للنهر، ثم
نقتعد واحداً من سلالم الكورنيش، لنقضي شطراً كبيراً من الليل في الحديث.
بدأتُ أكتشف لديه ذوقاً غريباً في الأكل.
قال يوماً، وهو يراقب، ببسمة مستمتعة، دهشتي من مزيج غريب من العصير كان بين يديه
: "أتعرف ما هذا؟" صحتُ من غير يقين : "لاشكّ أنه خَلّ"،
فأطلق ضحكة طويلة قبل أن يجيب : "لا، هذا عسل عبّاد الشمس مع زلال
البيض"، ثم شرح أهمية المزيج في إنعاش الخيال. أوضح بلهجة من يكشف سرّاً
ثميناً، أن الشاعر إليوت كان يتناول منه قبل النوم. من يومها انشغلنا في البحث عن
أنواع عجيبة من المأكولات والمشروبات، كان يتناولها في عزيمة ثابتة... هذه العُلب
كانت غذاء فوكنر اليومي، تلك الخُضار فطور شكسبير المفضل، لنأخذ كمية من الشموع
لأن بودلير كان يعمل على الشموع، كيف نسينا النبيذ الأبيض! إنه من أحبّ المشروبات
إلى قلب جيمس جويس.
بدأ شعوري بالواجب حيال طلباته يزيد
إيماني بالطاقات الخلاقة التي يملكها، والتي توشك أن تنسكب على الورق في عمل
إبداعي خطير.
كانت الثقة بالنفس تعوّض جدب الحياة
المحيطة بنا، تضيء عتمتها بمصابيح باهرة، ثقته في نفسه، وثقتي بقوة خياله، وغدا
استخفافه بما يقوم به الآخرون "الأساليب الركيكة" كما يسميها، يعزّز
قناعتي بمواهبه.
في غمرة ذلك لم أعد أهتم بحياتي الخاصة،
بما في ذلك علاقتي بصديقتي، التي هجرتها لكي لا تشغلني العواطف المبتذلة عن
"الهموم الإنسانية الكبرى" كما أشار.
أول مرّة انتبهت فيها إلى تعلقي بصحبته
يوم ذهبت إلى غرفته فلم أجده فيها، أنبأني المستأجرون في الدار أنه خرج منذ
الصباح، فرحت أدور في المنطقة ثم أعود أسأل.
كان يوم عطلة، فاستغربت خروجه المبكر، هو
الذي اعتاد التقلّب في الفراش إلى وقت متأخر من النهار، فعدت أتسكع في الشوارع
القريبة ثم أطرق الباب من جديد.
لم تكن الشبهات التي تثيرها علاقتنا
لتزعجني، إنّما الإحساس بالوحشة الذي يؤججه غيابه هو الذي يضايقني. أصبح تأثيره
على حياتي كاسحاً.
نسيتُ القول، إن الفراغ العاطفي في
مجتمعنا، جعل كل واحد يلعب، في نظرته للآخر، دورَ السكين مع رقبة الشاة. مجتمع
يمكن فيه للكذاب أن ينتقد الكذب، والوضيع أن يشكو من الوضاعة، دون أن يهتزّ لهما
جنان، فما بالك بصحبة بين شابين، تضع نفسها، علانية، بين فكّي الأقاويل؟
أخيراً عثرتُ عليه، حوالي منتصف الليل،
في مقهى يهيئ عماله أنفسهم للإغلاق. كان يتوسط مجموعة من المثقفين ويتحدث، كأن على
لسانه شعلة من النار، عن الصداقة والوفاء.
لم ينتبه إلى حضوري، أو هكذا تصنّعَ،
ففهمت أن هذا الاختفاء كان جزءاً من نزواته، وحين نهض الجميع، بعدما أُطفئت
الأنوار، سرتُ إلى جانبه وقلت:
ـ قضيت النهار أبحث عنك، أين كنت؟
ـ كنت أطوف على الأسواق، بحثاً عن حبر
قرنفلي.
ـ كل النهار، ولماذا قرنفلي؟ وقبل أن
يأخذ وقته اللازم للإجابة، استبدت بي رغبة قوية في التهكم، فأضفت. مَنْ مِن
الكتّاب العظام يستعمل حبراً قرنفلياً؟
ـ هذا ليس من شأنك.
لم تعجبني لهجته المؤنبة، إلاّ أنه سأل:
"أين بحثت عني؟"
عدّدت الأماكن التي نرتادها، وأشرت في حنق
إلى بيته، ثم قلت في جرأة غريبة، وعلى مسمع من الآخرين :
ـ إن المستأجرين يتغامزون كلما ذهبت أسأل
عنك.
على أضواء الشارع الخافتة، بدت لي
ابتسامة خبيثة ترتسم على طرف فمه، بينما قهقه الآخرون لحركته هذه، فانتابني حرج
كبير. شعرت أنه يستمتع بأن يحاط بهذه الظنون، وربما كان يغذيها بطريقة خفية. تلك
الليلة لم يلامس النوم جفوني، وتحوّلت يقظتي إلى كابوس.
في الأيام التالية ابتعدت عنه، ثم بذلت
محاولات يائسة لإعادة الوصل بالفتاة التي تركتُها منذ ستة أشهر، وفي نهاية الأسبوع
قصدت أحد المقاهي الذي يرتاده علّه يمرّ هناك.
كما توقعت، ظهر في أول الشارع يجرّجر
أقدامه باتجاه المقهى، وحين رآني تقدم باسماً، بينما خشّنتُ ملامحي بوجهه، إلاّ أن
سروري لم يكن خافياً عليه.
بدا متعباً، ذابل الوجه، قال إنه بدأ يكتب
منذ ثلاثة أيام، غير أنه لم يرضَ عما كتب، وأشار إلى الوظيفة "العمل هو الذي
يعيق الإبداع"، قلت، مستعيداً حميميتي في سرعة، إن عليه إلاّ يقنط، وأكدتُ،
دون أن أكون متأكداً من شيء، أن بمقدوره الكتابة أفضل من الآخرين، واتفقنا، تحت
تأثير فرح غامر، أن يعاود التجربة، وان لا يتعجل في الحكم على ما يكتب.
شعرت بعزيمته تتسرب إلى دمائي وهو يتحدث
عن كتّاب مشهورين، بدأوا حياتهم بمحاولات هزيلة، ليست لها قيمة، ثم ضربوا ضربتهم
المدهشة بعدئذٍ.
الذي أقلقني، بعد افتراقنا في الساعات
الأولى من الصباح، تذمّره من الوظيفة، فهو، رغم الراتب الذي يتقاضاه، مدمن على
الاستدانة، ولأنه غالباً لا يسدّد ديونه، ضاقتْ حوله الدائرة ولم يعد أحد يثق
بوعوده. كان يرى في الصديق الحقيقي ذلك الذي يدفع له من غير أن يطالبه بإعادة
الدين، وكثيراً ما كال المديح لشخص كونه "يقاسمك ما في جيبه بقلب كريم"،
أمّا حلمه الكبير، فهو العثور على محبٍّ للثقافة، يترك له بيته، ومخزن غني
بالمئونة، ليتفرغ فيه للكتابة، وحبّذا لو تكون له، صاحب البيت، بنت جميلة.
إذا كنت أضحك أحياناً مع نفسي لهذه
الأفكار، فقد اكتشفت أخيراً أنها كانت بمثابة أحلام مريرة، ظلّت تدمّر علاقاته
بالبشر إلى النهاية.
خلافاً لما توقعت، في أن تكون عودة
علاقتنا بداية لصداقة متكافئة، أكثر حميمية، غلب على تصرفاته النزق، والتبرم بكل
شيء، وفي غضون سنة صارت أنانيته لا تطاق، وتشرّبَ سلوكه بعدوانية صامتة، ثم أصبح
يمارس كل الأعمال التي ينتقدها في الآخرين.
كنت أحسّ دواخله تغلي بالأفكار والصور
والمفردات، غير أنه كان يشعر بالعجز عن الكتابة، وراح هذا الشعور ينقلب عليه،
فيزداد كراهية لمن حوله، ويبرع في ملاحقة أخطائهم للنيل منهم، والتقليل من شأن ما
يقومون به.
بصراحة أقول لك، في تلك الأيام كنا ضحية
شيء لا أعرف كنهه، نوع من تشقق داخلي يدفعنا إلى صناعة الأوهام، لنحتمي بها، أو
نقاتل كوابيسَ وحقائقَ لا طاقة لنا على مجابهتها.
قبل فترة طويلة أعدّ بعض الكتابات
القصيرة، لم تجذب الكثير من الاهتمام، ولكنها ظلّت سنده، وتحوّلت بمرور السنين إلى
ما يشبه المنصّة لوعد كبير يتجاوز كل مألوف، وها هي المنصّة الآن خاوية، بينما
مُنشِئُها مطروح جانباً، تتقاتل في نفسه الصراعات، فهل أقول له هذا الكلام؟ قطعاً
لا. أكثر من ذلك رحت أدافع عن قدراته أمام الأصدقاء، إلى أن تحوّل إلى بطل،
انهمكتُ في صقل وتلميّع خوارقة.
في النهاية ترك الوظيفة، وانتقل إلى غرفة
ضيّقة، بفرش قديم، تنبعث منه عفونة مقيتة، وبدأ يتشكى من أقلام الحبر التي
يستعملها، لأن "انسياب الريشة الناعم، وحده يساعد على اللحاق بالأفكار أثناء
الكتابة"، فأحصينا ما بجيبي وما معه من نقود وذهبنا إلى السوق. المطلوب قلم
ذو ريشة عريضة، وصقيلة، بنعومة الماس.
في الطريق تحدث بكراهية عن الذين يكتبون
بغزارة، لأنهم "لا يمنحون أنفسهم فرصة للتأمل، فتأتي أعمالهم غير
عميقة"، وأشار، للمرّة الأولى، إلى "حاجاتنا الجنسية"، فوقفت
مذهولاً للحظة، إذ عبرت في ذاكرتي كلماته القديمة التي كان يستهجن فيها الانشغال
عن الهموم الإنسانية بالعلاقات مع النساء.
تذكّرت صديقتي، شعرت بالندم لفقدانها،
وتتابعت على خاطري صورٌ كئيبة عن حياة التسكع التي أعيشها، وبؤس النوم في الفنادق
الرخيصة التي أقيم فيها.
ـ ما رأيك بهذه ؟
انتزعني من أفكاري بسؤاله، ووجدتنا أمام
دكان يبيع الخردة القديمة، استفسرتُ:
ـ ماذا ؟
ـ هذه الآلة الكاتبة !
كان يومئ إلى آلة كاتبة ابلاها القِدم،
وضرب الصدأ جزءاً كبيراً منها، قلت:
ـ لا أظنها تعمل، لأن نصف مفاتيحها مخلوع،
وفوق ذلك ...حروفها إنكليزية، فماذا تفعل بها؟
ـ من يدري، ربّما كانت يوماً ما بين يدي
كاتب روائي كبير، أو شاعر فحل.
ـ لم أسمع عن روائي أوربي كبير، أو شاعر،
كان يعيش في هذا البلد.
ـ هل نسيت أن همنجواي كان يعمل مراسلاً
حربياً في الخمسينات، وقد يكون مرّ من هنا في طريقه إلى بلد آخر، أو، اشتراها منه
أحد الأوربيين، وجلبها معه إلى هنا!.
تحاشيت الدخول معه في جدل طويل، لكي لا
يتحوّل إلى السخرية مني، وحملنا الهيكل البالي في احتفاء، وعدنا.
قبل الدار ببضع خطوات، صادف واحداً من
سكان مدينته، تعانق معه بحرارة، ثم انفرد بي وطلب، في نبرة متوسلة، إيصال الآلة
إلى غرفته، ليصحب زميل دراسته القديم ساعة من الزمن. فهمتُ الخطة التي دارت برأسه
في تلك اللحظة، واستجبت لهذا الطلب من دون رغبة، ثم تفاعلت مشاعري وانتابني الغضب،
ليس من فكرة إيصال الآلة الخربة التي كنا نتناوب حملها، إنّما لإبعادي بهذه
الطريقة.
بدلاً من التوجه إلى الغرفة، دخلت مقهى
على الطريق لأنفث نيران حنقي.
ما كاد السُكّر يذوب في فنجان الشاي، حتى
داهمت المكان مجموعة من رجال الشرطة، توجه بعضهم إلى عدد من الشبان منزوين في ركن
المقهى. لم أكترث للهجمة، حالما عرفت أنها موجهة ضد بائعي الحشيشة، ومتعاطيها، غير
أن أحد الشرطيين توقف أمامي، راح ينقل النظر بيني وبين الآلة الكاتبة، وفي الأخير
أمرني بالانضمام إلى الباقين. اللعنة على همنجواي !.
في المخفر، ابتسم المفوض وهو ينقر بإصبعه
على المفاتيح المخلّعة، واقترح، ما دام الشرطي كتب اسمي في لائحة المجلوبين، أن
يحتفظوا بالآلة معهم، بينما أدبّر شخصاً يكفلني، شكلياً.
كان يقف وسط الغرفة، يحدّث زميله عن
مكتبته الصغيرة، ويُريه رسائل قديمة من صديق يشتركان في معرفته، عندما دفعت الباب
بعنف ودخلت. سردت تفاصيل الحادث، وطلبت منه مرافقتي إلى المخفر ليوقّع على ورقة
الكفالة فيسقطوا الدعوة عني.
صمتَ لفترة، كمن يريد استيعاب ما سمع،
بعدها قال في برود قاتل:
ـ ولكنني وعدت سليم بالذهاب معه إلى
السينما، وأشار إلى صديقه.
ـ لن يحتاج التوقيع أكثر من خمس دقائق،
ثم تذهبان إلى السينما.
عاد يفكر من جديد، بينما المشاعر تضطرب في
داخلي، وفي النهاية قال:
ـ لا أريد التورط في مشاكل مع رجال
الشرطة.
ـ إنه مجرد إجراء شكليّ، إلاّ ترى أنني
حضرت إليك بنفسي!
لم يحر جواباً، وبدا أنه يبحث، كعادته،
عن ذريعة أقوى، فطفحت الانفعالات في صدري. صفقت الباب بوجهه ورحلت.
بعد فترة طويلة، ابتعدت خلالها عن الوسط
الذي يتردد عليه والأماكن التي يرتادها، التقيتُه صدفة في الشارع.
كنت عزمت على التخّلص نهائياً من هذه
العلاقة، لأنني أصبحت أضيق بأعبائها، ولا أحتمل سلوكه، خاصة بعد حادث الآلة
الكاتبة، وها هو ينبثق أمامي، منفوش الشعر، غائر العينين، يبتسم بروح ودود، ويشير،
على حياء، إلى عوزه، ومحاولاته إيجاد عمل ليسدد ديونه التي حرمته من التركيز على
أي شيء آخر، فوجدت نفسي، من جديد، أنقاد إلى صحبته، وأنسى أخطاءه، بل تذكّرت بحنين
الجوانب المبهجة من صداقتنا، وبعض لفتاته الجميلة، فذهبنا نتناول غداءً بسيطاً.
في المطعم تحدث بمتعة واستيعاب كبير عن
قراءاته الجديدة، وتذكرنا بعض دعاباتنا مع الأًصدقاء، ثم تناول بالذم والسخرية
"كتّابنا" أولئك الذين يكتبون بغزارة، لأن ظهور صورهم في الجرائد، أهم
لديهم من تطوير أفكارهم.
إن الوعي الحاد بالأشياء وبالحياة، عندما
ينحبس في هذا الوعاء الهش، الذي نطلق عليه رأس الإنسان، من دون أن يجد له متنفساً
يعبّر من خلاله عن ذاته ورغباتها، يتحوّل إلى طاقة شيطانية خبيثة.
كنا نجلس على حافة الجسر، في منتصف الليل،
نتشاحن ونرفع عقيرتنا بالصياح، هو يسوّغ ويختلق التبريرات، وأنا أغلي من الغضب. لم
يستغرقني الأمر سوى لحظة واحدة من التفكير، ثم دفعته.
غاص غوصة واحدة، غوصة واحدة فحسب،
وابتلعه النهر، بلا ضجيج.
الشيء الجديد الذي طرأ على علاقتنا في
المرّة الأخيرة كانت المشاحنات، والشجار، فالعجز الذي كبّله حجّر أجمل ما في قلبه،
وأصبحت نظرته، التي كان ذبولها القديم يوحي بالوداعة، ذئبية الغور، عندما يسلّطها
عليك، لا تعرف إن كانت تريد الألفة معك، أو الإيقاع بك.
كان أسير شعور قوي بأن المجد في متناوله،
ولكنه غير قادر على الوصول إليه، مع ثقة معذّبة بأنه، من بين كل الآخرين، أول من
يستحقه. قلتُ، رحمة بي وبه: "إن الآخرين لا يأخذونك مأخذ الجدّ، وإنني وحدي
مخدوع بك". سخر مني، ودفعته.
قد تسأل، ولماذا عدتُ إليه في المرّة
الثالثة؟
لا أدري، ضعفاً مني، أو شفقةً به، ولكنني
دفعته، شعرت، في تلك اللحظة السريعة، أنني صنعته بيدي، ولا يوجد حلّ إلاّ بالتخلّص
منه.
*
* *