أنا العنصري الوحيد بين الغجر

 

   كنت أنتظر على هذا الجانب من الحدود.

   منذ ساعة والكمركي يتفرّس في صوري وويراجـع ألقابي، يشاور خبراته قبـل السماح لي بالعبور إلى الجانب الآخر، عندما ظهر موكِبُهم؛ نشوان بالحياة، ترافقه جَلبَة الدبابيس الرخيصة.

   ذباب أرضي، هؤلاء الغجر، لا يفعلون شيئاً، ويساهمون في كل بقاء.

   أرتحلُ عن مدن موسومة بالفظاظة، وجوه سمراء وصفراء، محروسة بوصايا القلب الإنساني، تقضم الحديد والأشجار، منتج كبير للفوضى، للأزبال، لخفة العقل، وما إن تهدأ أنفاسي حتى يظهر الغجر، فرادى، ثم جماعات، تلعب الريح بأذيالهم المكشّكشة، وعلى وجوههم نظرة ماكرة، وبسمة ودود.

   ــ أهي المرّة الأولى التي تأتي بها إلى هذا المكان؟ يسأل الكمركي، من غير أن يرفع نظره عن أوراقي، فأردُّ بـ"نعم" في خفوت، ثم بصوتٍ عالٍ، لكن غناءهم يشتّتُ جوابي.

   مزامير هياج، عواصم الترف. في كل زاوية غناء، في الأسواق، في الحدائق، على الأرصفة، النوافذ تغني، السيارات أيضاً في طرب، ومن الأرحام ينطلق الصَخب، تقول رأيها في الحياة، ثم يأتي الغجر، يدوسون على الأقدام وهم يصدحون بالغناء، فلا يتبقى لتمتماتِكَ القليلة مكان.

   وعلى الأطراف، من التلال المعشِبة، ينقضّ الهوام، سلالاً جديدةً من البشر، رؤوساً بليدة، تقرِصُها أحلام مشوّهة عن مزابل الرفاه، عن الفساد المبذول للجميع، فتنتعش مضارب الحصار بالضجيج، بأمراض المعدة، بقتل العجائز من أجل حقنة سريعة من الهرويين، وترتفع القساوة الحمقاء مراتبَ جديدة من الزهو بالنفس، وما إن يشغر بين الأقدام مكان، إلاّ واحتلّه غجري.

   ما همُ الغجر! إنْ لم يكونوا جَراداً أرْقطَ تجذبه زُفرةُ المدن، سهماً لا يشير إلى مكان.

   ــ كيف تلفظ أسمك الأخير؟ عاد إلى السؤال، وما انفكّتْ عيناه تبحران فوق دفاتري وأوراقي بشهية ضبع خاوي الأمعاء.

   بين غجر مقبلين، ورجاء مُسهد، قعدتُ أنتظر، كلما تفوّه الكمركي بالأسئلة العصيّة، يتقهقر الأمل إلى الوراء، تسبقه الذاكرة المعذّبة.

   على ضفاف التَيمز الخامل، يتنزّه أزواج متشابكي الأيدي، من طبيعة جديدة، يرمون أغلفة الجُكلَت وعلب ماكدونالد في المياه السوداء.

   ــ آه يا عزيزي جورج، يشهق الأول في بهجة. كم هو ساحرٌ، مشهد الغروب فوق النهر!

   ــ إنه حقاً خيالي، يردّ جَيمس، وهو يضغط، مأخوذاً بنفس الشعور، الأصابع الغليظة المستكينة في راحته.

   ــ ليتَ العلم الحديث يسعفني، فأحمِلُ منكَ طفلاً في أمعائي، لتكتمل سعادتنا.

   ــ أنتَ تخلط بين أسمائكَ، قال الكمركي بدهاء، عندما تهجيتُ اسمي الرابع، ففكّرتُ: أنه يتصيّد الوقعة الثمينة من وقعات حياتي.

   الطمي المزيَّت يتراكم فوق هامة إليوت، وفي الشوارع المحاذية لريجنت بارك، يسرق امتياز شرف الدين موقف السيارة من الأجنبي المتهيّب، ليبيعه إلى إنكليزي متأخر عن الوظيفة. "جنيهاً واحداً يا سيدي، وأترك الموقف على الفور".

   مبتدعُ مهنٍ لا تلحظها عين القانون؛ امتياز شرف الدين، متربّص بارع بالمتعَبين، المحتاجين إلى رغيف يابس، أو علبة  سردين بلا تأريخ، لدى عودتهم المتأخرة من الوظيفة.

   ــ أوه يا مستر شْرافِلدينْ، ماذا فعلت دواليب سيارتك بحديقة بيتي؟

   ــ انظروا هذه الإنكليزية المخرّفة!، يضيف امتياز شرف الدين العبوسَ إلى طبيعته الكئيبة، ليصيح مستغيثاً ببقية الوجوه (زوجتين وعشرة بطون):

   ــ تذرف الدموع من أجل شتلات رَوُز تافهة، بينما أكدح لخدمتهم في مواقف السيارات صباحاً، ودكان البقالة ليلاً! سلام عليكم أيها الأئمة الأجلاء، متى نتخلّصُ من هؤلاء الكفار؟.

   في غضون تلك البلوى، قبل أن تنطفئ النجوم المعتمة التي نثرها عتابُ مالكة البيت، ظهرت غجرية في مدخل البقالة، جائعة، تبرز بنساتها القليلة في كفها الصغيرة، فأشرقت سحبٌ القلق على وجه شرف الدين، تبلبلتْ روحه، عين شَزْراء على القادمة، وأخرى على البضاعة، قبل أن تصرخ أعماقه المثلّثة الأوجاع:

   وبعد، أيها الأئمة!.

   الغبار القادم من الشرق، العَفنُ الذي تدفعه ريح مضطربة، لا تميّز بين قلب حزين، ورأس تموج فيه الأمعاء، يبحلق في السراب الذهبي، يحلم بشواطئ الأمان والنعيم، أوربا، أوربا، عدن التي تفتح أبوابها الخلفية للقادمين. الرأس بخمسة آلاف دولار، والنزول أثناء نوبة تغيير الحرّاس.

   أوربا، أوربا، قطافُها دانية، والخداع بعشر حسنات في الجنة.

   الريح في جنون من أمرها، تكثّفُ رِحلاتها لتخفيف الأعباء عن خزائن حكام الشرق، عن أوقات استرخائهم الضيقة. رَوَالات روبيسبير الخطابية، ملوك جمهوريات كئيبة، مشعوذو ديمقراطية عصابيون، أزعجوا النوم حتى في عيون الغجر: "من أين تأتي، وإلى أين تتجه، هذه الحمولات البشرية المولّولة؟".

   ــ هل الناس المسرعون قومُكَ؟

   سأل الكمركي، من غير أن يمنح الضجة المقبلة نظرة اهتمام. فقلتُ: " لا " بلساني، وهززتُ رأسي مؤكداً، ثم نفيتُ، قاطعاً، بيدي.

   تلّـفّتُ، بذاكرتي، إلى الخلف، إلى مدن عظيمة، بلا رجال عظام، والرخام، مكسوفاً، ينحني للجباه الصغيرة، ثم يعود يفلّي القَمل في تيجانه الأيونية. إلى أضواء النيون، مسعورةً، تتعارك على الليل، والأرصفة ملثّمة بالسكاكين. إلى موظفي "جهوفا" يعلنون، ببدلاتهم الصباحية الأنيقة، عن قيامةٍ وشيكة، حَدّد موعدَها الصارم رئيس تحرير مجلة شهرية. إلى أطفال الله المدلّلون، (أَحذِرْ! القانون الإنكليزي يحرّم ذِكرَ لونهم)، يزرعون الرعب في باصات الليل وعربات الأنفاق المُسهدة، ويتبولون فُوَارة الشعير، إثرَ كل صولة، على قبور بلال بن رباح وغاندي ولوثر كنك، والقضبان البيضاء المحفورة على بشرة مانديللا، وفي الضواحي البعيدة، استعداداً لحروب الإيمان القادمة، تنتعش سوق زيجات المتعة، وتنافسُ، في الكرِّ والفرِّ، بورصة لندن.

   وأنا، التائه الذي يشيح الكمركيون عن بيناتي، كلما هزأتُ بالفقر، يأتي الفقير ليذكّرني بوطأتِه.

   ــ والآن أخبرني، قالت نظرته وشفتان أعياهما التمحيص. ما الذي جاء بكَ إلى هذه التخوم؟

   الوجوه، يا سيدي الكمركي، الوجوه التي أراها يوماً بعد يوم، في الشارع، والمقهى، وفي مخازن الأطعمة، إلى أن غدوتُ وجهاً بالياً يتكرّر في عيونها.

   لندن، يا سيد الكمركيين وتاجُهم، اكتظاظٌ يتناسل في شوارع ترقص على طبول أفريقيا، وحتى لو نمتَ بين شقوق الأرض، يدخل الغجر مأواك.

   إنها تسدّد الفواتير عن نزوات الأجداد، غرورهم الساذج، عن حِرابِهم يتصبّبُ من فولاذها العَرقُ، ونسدّد معهم إنّنا لم نكن الحِرابَ، ولا الجُرحَ المتلذّذ في انتقامه.

   ها هم يصلون، أخيراً، والكمركي مشغول بأوراقي. يمرّون أمامي ثم يعبرون الحدود، وهو يسفحُ ماءَ عينيه فوق صوري وأختامي. الصغار أوّلاً، ثم النساء، يلتصق الرُضّع بصدورهنّ. إلى الخلف، على مسافةٍ وقور، يتبخترُ الرجال، تُسَرُّ الحدود بغزوتهم الجائحة، وصاحبي الكمركي يمضغ، بعينيهِ، تواريخي وألقابي.

   ــ انهضْ.

   وقف إزائي، طويلاً، مَهيباً، بسترة من جلدٍ مرصّعة بالذهب الأبيض.

   ــ انهضْ، لا تبدد وقتك بهذا الجلوس، عاد إلى القول، زعيم الغجر ومولاهم، بينما تابع الموكب خَطوَه الآمن إلى الجانب الآخر.

   بين الهِزء من كلامه، والدهشة مما يجري، بقيت لائذاً بصمتي.

   ــ لن ينقضي زمنٌ طويل، حتى تنتهي إلى كومة من العظام، والأجدر أن تختار مكاناً آخرَ لهذا المصير، الذي يشترك فيه السادة والرعاع من غير تمييز.

   بعد الانتهاء من حكمته الشائعة، أخرج سلسلة رقيقة من الذهب، في طرفها أيقونة لم أقبض على شكلها، ولا عرفتُ إنْ كان ذهبُها رخيصاً، أم خالصاً، لأن سمعي تخبّطَ في الكلمة الأخيرة.

   ــ لقد أنكرتنا ثلاثاً، وهذا يجعل عرضي شاقاً على نفسِكَ، فاعلمْ، أننا لا نقيم وزناً لأحكام البشر.

   كان الغروب يتراجع إلى الجبال القريبة، فتهبط حِرَاب الليل الأولى على القفر الحدودي، باردة، متدثّرة بالوحشة، وسيد الغجر، سيداً للوقت، يشبكُ كفيه بالذهب ويفردهما، غير آبهٍ بشيء، فيما بوابة العبور تسبل أجفانها للذيل المبعثر، قليلاً، في الموكب الطويل.

   قلتُ:

   ــ لماذا تهتمونَ بأمري؟

   ــ لأن هيئتك توحي بالضياع، ولن يثقل علينا حملٌ صغير.

   ــ لا، شكراً. بين لحظة وأخرى ينتهي من فحص وثائقي، ثم يسمح لي بالعبور.

   ــ إنني لا أتحدث عن العبور، صاح في خيبة، وباللهجة المؤنّبة التي يضطر إليها أصحاب المعروف، في اللحظة التي يوشكون فيها على تولي أمركَ، أضاف. إن الحدّ الذي تراه يقسم الأرض، ليس أكثر من وهم مخطوط في رأسك.

   ــ إذن، إلامَ تهدِفُ؟

   قال:

   ــ المدن لا تجذبُ إلاّ الرُعاع، فلن تجد السلام فيها، انهض، تخلّص من بؤسك، وانتظر بقلب رضي، كما نفعل، العطاء الشحيح الذي تقدمه الحياة. إن السماء عادلة، فقط لأنها بعيدة عن هذه الأرض، أمّنا التي ينضب حنانها كلما شاخت، فتفرّخ نَسلاً مشوّهاً، جَهِماً، إلى أن يأتي الزحفٌ العظيم للجليد المُنقّى، معلناً عن بداية طاهرة، وشمسٍ جديدة.

 على الشُعاعِ الرقيق لمعنى كلامه، فهمتُ أنهم لن يكفّوا عن الترحال، إما لإستقبال زحفهم الجليدي بالتهاليل، أو لتحاشي وصولَه الكاسح.

               كان عرضُه مغرياً، بَيدَ أن مجاديفهم الضاربة خارج اليمّ تقلقني، فقال، كمن يردّ من خلف أبواب السِحر، على مخاوفي:

               ــ أنتَ لا تخاف صحبة الغَدّار، وتفضِّلُ معاشرة الجبان على الجلوس مع الوصولي. هذه طباعُكَ مرسومةٌ هنا، على وجه أيقونتي، فلماذا تخاف صحبتنا، نحن الذين نشارككَ العادات والطباع!

   بعد أن أنهى كلامه، أعاد السلسلة إلى جيب سترته العميق، ومشى نحو بوابة الحدود، فنهضتُ وتبعته.

   على الجانب الآخر، سألتُ: "ماذا عن أوراقي؟"

   قال من دون أن يلتفتَ:

   ــ بعد الآن لن تحتاج إليها، دَعْ الكمركي يتسلّى بقية الليل مع تفاهاتها؟