الآن، وقد عثرتَ
على حفرة هادئة، محاطة بالخضرة وزهيرات النرجس الأصفر، لماذا لا تكفَّ عن الشكوى؟ ماذا تريد
بهذا الصراخ؟
أوربا تجتر آثامها
القديمة، وإنكلترا تشيخ.
بهرمان
هِسّه، بفرجينيا وولف أو بدونهما، لم يعد الفرق مثيراً، إلاّ للنفوس المجبولة
على
العصيان.
للبنائين الصبيان، مشيدو
الجنّات الحديثة،
بأوتاد الكلمات القديمة.
ماذا تريد يا
سيدي، بيت لا يستوطنه غاز العوادم، مستحيل.
أو
اِتبع الإنكليز، سر خلف الويلزيين، أو
تأمل الطرق التي
يسلكها الاسكتلنديون، وهم يبحرون صوب القارات البكر، بحثاً عن بقعة مشمسة، وهواء طلِق.
هو ذا قدر الإنسان، أن تفسد
خطواته، ما تعجز الطبيعة عن إصلاحه، فإرشدني...عفواً، ماذا قلتَ اسمك!
بوحصير،
ردّ علام، عبر زجاج النافذة
الغليظ. علام بوحصير.
...
يا عزيزي
بوهصير، إلى بيت لا تشارك
فيه أنفاس العوادم أحزان
ساكنيه وأفراحهم،
وسيكون من نصيبك.
"باقون أنتم، يا جرذان المقاعد
المنخورة،
أبديون،
ترضع الدول والقوانين من
سحناتكم
الكئيبة، بينما الزمن يموت..."،
صهلت دواخله، بعد أن تنفس
هواء
الشارع الثقيل، ثم كبح غضبه،
ليتابع
مساعيه، اذ ما جدوى الشتائم،
حين توجّه
إلى
بنايات مدرّعة بالاسمنت والزجاج. ماذا
ينفع
الغضب، وأنت تطلب النسمة النقية من
موظف
يجلس داخل فرن؟
بوهصير،
وفي الأصل بوحصير، يدور على
مكاتب الرحمة، ومكاتب الصحة،
ثم يعود
لمكاتب
الإسكان، لأن النظرة في عيون مريم
تذبل،
تخفت، وتغيب ثم تظهر، يكاد
شعاعها
الأخير أن ينطفئ، وهي تلوذ
بالنوافذ
والجدران، هرباً من دفقات الغاز
الأسود،
تطلقه عوادم السيارات الأنيقة، مئة
وخمسون
ميل في الساعة، إنخطاف يناسب
العصر،
الذي يركض برئة تالفة وأخرى
سليمة،
بينما يخون بوحصير الآمال التي
قدمها
لزوجته وهما يعبران البحار والمحيطات،
عن
الكلمات العذبة، تصوغها المحابر الجليلة
للإنسان
عندما يحلم، والإنسان عندما يخطأ،
وحين
يضيع تمدّ له أطواق الأمل. عن مدن
تقدم
للغريب حياةً كريمة، وبيت صغير هادئ.
هادئ؟
تساءلت الموظفة ببسمة متهكمة. الهدوء
يبعث على الضيق، قالت: الغاز
أفضل.
بوهصير؛
جاء بعد الأوان، أو قبله بكثير، إلى
جنّات
تعصف بها ريح الخريف الطويل،
خليط
عظيم وهائج من الأجناس، وجوه
مهمومة
في عبور دائم، قبل ساعة واحدة من
يوم
القيامة، ودجاج السيد ماكدونالد يقأقئ
نشيده
الروحي في التلفاز، ومن الإعلانات
الهائلة
على الطرق.
لندن
تؤوّل نهارها بالضجيج، وفي الليل توقد
ساحرات
مكبث الدخان من جدائلهن
الشمطاء،
ليضلّل عيون المصابيح عن أشباح
اللصوص
وسكاكين الغدر الجائعة.
بوهصير؛
أو ما شئتَ من اسماء، نحتت
أصولها
القارات، يبحث عن نسمة نقية لرئة
زوجته
التي أتلفها الربو، عن نوافذ لم يلوثها
غاز
العوادم، خلفه، من مسافات ملؤها
غصات
الحنين، تنشـر الغازات أجنحتها
الضبابية
فوق المزارع، والطرق العامة وقرى
الفلاحين:
غاز أصفر للحروق الغائرة، أحمر
لقلب
الأمعاء إلى الخارج، أبيض يهيـج
الدموع
والمخاط، قاتم مصحوب بالشرر
ترسله
المدافع الرشاشة الكامنة في الروابي
المحيطة،
غاز بخاري يتصاعد من رقاب
الأطفال
المذبوحة، غاز خردلي للسقوط
السريع،
غاز يحمل البكتريا، وآخر
للفيروسات،
والتوكسين، والسموم،
والنابالم،
وغاز الخطب السياسية الملتهبة.
الغازات!
قال ديفيد بنحليام، وهو يضع
مرفقيه
على قاعدة النافذة الزجاجية. نحن من
يعرف
حقيقة ما تفعله الغازات يا سيدي،
في
ظلمة الأفران بشكل خاص.
ستكونون
اليهود الجدد، لكن من دون
عصا تهديكم. مثلنا، خروجكم عظيم،
بَيدَ أن التيه لن يغدو من
نصيبكم، هذه
النعمة خصّنا بها الرب،
والغاز هويتنـا
الحديثة،
جائتنا من الخارج، وظهرت إليكم
من
أذيال ثيابكم، على ذلك لن تفيدكم
بشئ.
يمكنني التنازل عنها، قال
بنحليام في
لطف
زائد. شخصياً أتخلى لك عنها منذ
هذه
اللحظة، لكنها لن تجلب لك مأوى
تتنفس
فيه نسمة نقية، لأن الغازات في كل
مكان،
تدخل كل بيت، تعشعش على كل
جدار،
ومهما ابتعدتَ ستجد الغازات في
انتظارك،
لكنني أعطيك بيتاً يا سيدي، تختار
نوع
الغاز الذي يشاركك السكن فيه.
بوحصير،
الذي يعود إلى زوجته، اليوم أيضاً
بلا
أمل، يراجع ما قاله للموظفين وما سمعه
منهم،
ليصوغ عزاءاً جديداً لليوم القادم.