خفقة حنان

 

  رغم النعاس الذي يثقل جفوني، أذكر أنني رأيتها في أحد أيام سبتمبر أو اكتوبر، لا أعرف على وجه التحديد، ولكنه نهار من هذين الشهرين، لأن السابع عشر من ديسمبر بقي محفوراً في الذاكرة، ما زلنا نبتسم لدى مروره، ونحتفل كل سنة في اليوم الذي يأتي بعده بأسبوع. رأيتها عبر زجاج الواجهه تتأمل قطعة صغيرة، في محل لبيع التحف القديمة.

   - هيه، أمازلتِ تهتمين بهذه الأشياء الصغيرة؟

   غالباً ما صادفتها في واحد من هذه الدكاكين (بعد ذلك أصبحتُ أتقصد البحث عنها فيها) دائماً تحمل كيساً من النايلون يخشخش فيه حصادها اليومي، الذي يفرح به قلبها أيّما فرح. تماثيل من الخزف، أباريق زجاجية ملونة، سفن نحاسية، عصافير من البلور، علب صدفية، أغلبها بأحجام صغيرة، فهي تؤثر الأشياء الرقيقة التي على شاكلتها.

   رفعت رأسها، وابتسمتْ عندما شاهدتني، الابتسامة ذاتها، مبهجة مثل شمس تبزغ من وراء حقول قمح ذهبية.

  - نعم، قالت وأظهرتْ لي قلعة من البازلت بحجم علبة كبريت، ثم سألتْ، وما زال شعاع الفرح يطوف على وجهها. ما رأيك بها؟

-    إنها جميلة بحق، وأضفتُ، شاعراً بحنان مفاجئ تجاه حبّها لهذه الأشياء (في ذلك اليوم راودتني أحلام جميلة وصور عن حياة سعيدة) لا شك أنك تحتفظين بكمية كبيرة من هذه القطع!

-    إن النظر إليها ممتع.

-  يوماً ما سوف يحلّ محلّها شخص تحبّينه، فتتخلصي منها جميعاً.

   قالت: "لا.." بعناد الأطفال، ولا أعرف لِمَ أبديتُ ملاحظتي النزقة تلك، مع ذلك لم يفارقها الابتسام، أوضحتْ: "لن تحلّ محلها أطراف من لحم ودم، لأن بريق البشر يفنى قبل بريق الأشياء، فلا يتاح لنا التمتع به لفترة طويلة".

  - لِمَ نزلتِ، وقد آن لنا الصعود لننام؟ سألتها رحمة بساقيها اللتين يتعبهما ارتقاء السلَم، وكنتُ أفكر، بدوري، في نفس المشقة التي يتطلبها الوصول إلى غرفة النوم في الطابق الثاني، ولكنها واصلت نزولها البطيء.

   ظلّت ساقاها النحيلتان، الجميلتان، مبعث شكوى لها منذ عرفتها قبل عشرين سنة.

   جلستْ قرب المدفأة، على الأرض المفروشة، وابتسمتْ إذ توقعتْ أنني عرفتُ الحركة التالية التي ستقوم بها. فتحتْ أقرب الأبواب إليها من دولاب تمتد رفوفه الزجاجية على طول الجدار، وراحت تخرج وتتفحص ثم تعيد قطعاً من تُحفها الصغيرة.

   ما زالت ابتسامتها، التي عشقتها طوال حياتي، تبعث نفس البهجة. شمس وسنابل صفراء.

   رحتُ أنظر بوهن، تهدهده بين آونة وأخرى ذكرى سعادات قديمة، إلى انهماك يديها المعروقتين بتماثيلها وأباريقها الملونة.

   أدارت لي جبينها لتبتسم، وهي ترفع نحوي غزالاً نافراً من الكريستال اشترته في إحدى سفراتنا قبل عشر سنوات، أو ربّما أكثر، ثم مدّتْ يدها الأخرى ووضعتها فوق كفي التي جفت عروقها، كما لو أنها أشفقت على سهري، أو أرادت الاعتذار عن أمرٍ ما، ثم قالت:

  - كان يعوزها شيء واحد، خفقة من الحنان.

   كانت تشير إلى زجاجياتها، ففهمتُ سبب وجود يدها الصغيرة فوق كفي التي...ووجدتني أجرجر ذاكرتي إلى الوراء. فكرتُ طويلاً في أمور كثيرة، ثم قلت وكأنني أردّ على رجعٍ آتٍ من أيام بعيدة:

  - صحيح أن الإنسان يفنى قبل الأشياء بفترة طويلة، ولكن أفراح القلب تتلمس لها حيّزاً معيناً في الزمن، وتظل تدور، شأنها شأن الكواكب، في مدارات مليئة بالشموس.

   أذكر أنني رأيتها في أحد أيام سبتمبر أو أكتوبر، لم يكن لتحديد ذلك اليوم أي أهمية بالنسبة لنا، ولكننا ننظر إلى بعضنا ونبتسم في السابع عشر من ديسمبر في كل عام، ونحتفل بعيد زواجنا بعد هذا اليوم بأسبوع

*  *  *