لم يفهم سمير إن كان جو المعبد المشبع بالبخور وأنوار الشموع
الخافتة، أم بروز ركبتها الرخصة خلف الثوب الأسود الرقيق هو الذي حرّك رغبته
الطائشة في أن يدفع يده الى حجرها، يضعها هناك لتطوف فوق ملمس الفخذين الناعمين،
كما يفعل أحياناً عندما يجلسان في المقعد الأخير من الباص؟
راحت دواخله تتحرّق بالشهوة،
إلاّ أنه سحب في هدوء يده من المأوى الناعم.
كانوا يجلسون الى الخلف، أحمد
وسمير وبينهما عفاف، يتربعون على سجاد أحمر يغطي أرضية معبد وشرا هندو الكبير،
متهيبين في البداية من دخول المكان، ثم مستسلمين لوجودهم الغريب الذي لا يكاد
ينتبه اليه أحد. ظلت عفاف مشدوهة، تتابع بعيون جامدة الزوار الهنود، يعبرون المدخل
القريب من جلستهم ويتجهون إلى المحراب، يسيرون بمحاذاة جدول صغير يمثل نهر الغانج،
يبدأ من تمثال بقرة ارتفاعه قدمين، ويمتد على طول الضلع الخلفي للمعبد، وتنتهي
مياهه الضحلة ببركة صغيرة يجلس وراءها البانديت (رجل المعبد) يتلقى هدايا ونذور
الزوار من تفاح وبرتقال وموز ويضعها في خوان كبير على يساره، يحيط بكل هذا عدد
هائل من الشموع، تتلألأ ويمتزج ضوؤها بغلالات البخور، تنبعث بلا توقف من المجامر
والأعواد، فيتشبع الجو بعطر كثيف، دافيء، يشكل الى جانب الهدوء عنصراً مخدّراً
للحواس.
كان وجود أحمد طارئا. عندما
اقترح سمير عليها دعوة زميله القادم
الى لندن قبل أن يتابع سفره الى هولندا ، وافقت عفاف، لكنها طلبت أن لا يكشف، أو
يلمح له عن علاقتهما، فقبل سمير شروطها، لأنه بحاجة الى الخروج معها أمام الملأ،
ليتنفس ولو في ظلّ صديق مار، حرية مرافقتها الى مطعم أو مقهى، السير معها في
الشارع من دون حذر ولا تستّر، بعد أن أصيبت أوقات انزوائهما في البيت، بيته أو
بيتها، بالترهل والتكرار، رغم أجواء الإثارة التي تبتكرها باستمرار.
لم يُظهر صديقه أي فضول فيما
يتعلق بمجيء عفاف، إلاّ أن دواخله كانت تواري رغبة شديدة في معرفة مصيرها وموقع
جمالها بين الرجال، اثر انفصالها عن زوجها.
بعد تناول الغداء في مطعم
تفوح من جدرانه روائح الكاري الحادة، خرجوا يتمشون في الأسواق ليتفرج الزميل على
محلات الهنود وبضائعهم وجموعهم في منطقة (ساوثهول) غرب لندن، الى أن وجدوا أنفسهم
أمام معبد بواجهة متواضعة. وقف الثلاثة أمام الباب الصغير، يقاوم كلّ منهم على حدة
فضولاً جامحاً لمشاهدة ما يجري في الداخل، ثم تساءل أحمد إن كانوا يسمحون لهم
بالدخول!
مدّ سمير رأسه من الباب فوجد
عدداً من الهنود يدخلون في فناء صغير ثم يلجون المعبد. ذكّره المشهد بأضرحة
العراق، ومراقده التي تنتشر أمام أبوابها الأحذية والنعال، فأشار الى عفاف وأحمد
أن يتبعاه، لأن المدخل الى المغامرة سهل العبور. غير أن الذعر انبعث فجأة من عيني
عفاف وتراجعت الى الوراء، ثم تقدمت، على مضض، لتتخلص من نظراتهم المستفهمة.
ظلّ الثلاثة على جلستهم، في
الصمت التام، بينما تواصل دفق الزوار. كان الهنود يمرّون على شواهد صغيرة، مراع
وبيوت وأشجار جسمت بفجاجة على ضفتي النهر، ينظرون اليها في خشوع كما لو انهم
يزورونها للمرة الأولى، وعندما يبلغون البانديت، الذي يلف وسطه بوزرة تغطي ساقيه
المتصالبتين وتبقى جذعه ورأسه وذراعيه مكشوفة، يجلسون على الأرض ليقدموا الفاكهة،
فيباركهم ببضع كلمات مرتفعة وهو يرش على جباههم قطرات من ماء البركة، ثم يخرجون
الواحد بعد الآخر.
في دخيلته، بقي سمير منشغلا
بجلسة عفاف المتوترة، يسترق النظر الى عينيها المنشدتين بقوة الى ما يجري من طقوس
عادية، يفكر في القلق الذي ظهر على وجهها ويديها أمام الباب، ثم انصياعها السريع
الى الدخول، فيشعر انها تخفي عدم ارتياح، يتخذ الآن طابع الانسحار الغيـبـي.
دائما يحيطها بعينيه وقلبه،
يذهب ورائها الى الماضي الهائج ويعود الى الحاضر الساكن، يخاف الأول وأسراره،
ويقلقه الثاني بغموضه. يتخيلها تحوم فوق الاثنين، روحاً مجوسية تتغذى بالنار.
عندما تنفتح صمامات الخوف،
يغلق التفكير ويستسلم لتيار السعادة من وجودها معه، من انتمائها، الآن إليه، فقد
اختار مسلخه وانتهى الأمر، وهو صبور، ومتحمّل، ويعتّد بخبرته في الحياة، لذلك وضع
الأوراق الثلاث فوق راحة يده وراهن على حصر الشرر الهائم على وجهه في مكان واحد.
في الأربعين وما زالت جميلة،
عيون غجرية وأنف شهواني، وهي تعرف قيمة جمالها، تدرك أهميته بالنسبة لحياتها،
وتكرسه للتيه الذي يتخبط فيه قلبها، للغرق الدائم الذي يجرف عواطفها، للهوس الذي
يبعثر أحلامها، يحطمها الواحد بعد الآخر، ويجعلها منساقة وراء قدر عنيد، مسحور
وملعون، تلهو بعثراته الشياطين، وهو، في هذه اللحظة بالذات، وسط هذا المقام
المخدَّر بدفئه وروائحه، يعريها من كل ثيابها، يطوف بعيون الليل على تفاصيل جسدها
المضمخ بعطر كوكو شانيل المدهون بزيزت إيف سان لوران، فيشعر بالحبّ، بالانصهار في
طراوتها ولدانة أفخاذها وجذعها وصدرها حين تتلوى بين ذراعيه، ثم تلطمه موجة
معاكسة، إذ يتذكر، فجأة، لحظات شرودها، عندما تزوغ نظراتها الى الجدار، أو تتعلق
بالثريا الصغيرة في غرفة النوم، أو تسرح فوق النافذة المشرعة على السماء، فيتفصد
العرق من جبهته، يحسّ الخوف اليومي من ماضيها، من نزواتها،
من عشقها للتكتم، من ميلها الأخرق الى الكذب للتنصل من أي خطأ عادي لا يقبل الذنب،
فيتساءل: "بأي صُلب، بأي فلزات، بأي صخور من الجرانيت يطلي الجحيم جدرانه
التي تحفظ النيران المتفجرة؟"
انبعث بريق مرتدّ في نظرة عفاف حين شاهدت النسوة يغطين
شعورهن بالحجاب، فاهتز عصب واحد في أعماقها ليخلع العباءات السود على رؤوسهن ثم
هبطت على أكتافهن وانسدلت على أبدانهن لتغطي أذيالها الكعاب البيضاء، المغسولة،
المجلوة بعناية، تخفيها وتكشفها بخفقات لعوبة، مغرية، مستدعية، وملتذة بشهوات
الرجال، التي تعبّر عنها نظرات مفترسة، متربصة قرب الجدران والزوايا المحيطة
بالضريح الآخر، المزروع، هو والمعتاشين عليه من الأحياء، في الرمال الغربية للعراق.
صبايا ناضجات، متزوجات
وعازبات، باردات وشهوانيات، يدخلن المقام فتلسعهن برودة عذبة، يتخدر لها الجلد
وينكمش للحظة ثم تهدأ الأحزان. لكن بعض الدم، الدم المشبوب، الفائر على الخصوص،
يأتي وهو يصطلي بالنيران.
فكرتْ، وارتعش قلبها، انبعثت
فيه رهبة قديمة، ومخيفة ولذيذة، حين كانت تدخل الضريح، ونفسها مشبعة منذ الصغر
بالأفكار عن هيبة الراقد فيه، قوته الهائلة على البطش بمن يسيء اليه، من يستهين
بعذابه، أو يدنّس آلامه. تدخل وهي موزعة بين الخوف من غضبه، وبين الحاح النيران في
دمائها الفتية، يجذبها شيطان مغوي، بشع الصورة لكن لسانه من عسل، يستدعيها جحيم
يقدم بين كل هبة حارقة وأخرى رشّات من ماء الورد. تفرك خديها بمسحوق أحمر خفيف ثم
تذهب، تتسلل بعباءة سوداء، ناعمة، تخفي الجسد وتوحي بأسراره، تحجب وتكشف التفتة
البيضاء، المطبوعة بالزهور الملونة، المشدودة على الخصور والأثداء، مع اختها أو
صديقتها، دائماً برفقة لهب يبحث عن الماء، يتضاحكن ويتخازرن مع الرجال، في رأسها
ترّن وتعصف كلمات أمها:"لا تدخلي الضريح وأنت في العادة الشهرية" دائماً
يطاردها نفس الصراخ، يذكرها بالخطيئة، بالاثم الذي تحّول الى لعنة تلاحقها طوال
حياتها، تتجسد على شكل أحلام مفزعة، تهجم بعد فترات الأرق الذي يمتد طويلاً في
أعماق الليل، فتصحو مرعوبة، لاهثة، تسحب نفسها بصعوبة من بين مخالب وسكاكين هولات
العقاب.
من بين الفواكه الأخرى، أصابع
الموز وحدها تلمع في الخوان، وفوق صدر البانديت العاري، أسمر مشوب بالحمرة، تجلجل
الخرز والأصداف في دغل شعره المجعّد كلما هزّ ذراعيه الصلبتين ليبارك أو يرّش
قطرات الماء.
في اليوم الثالث من جريان
الطمي الحار يصطلي جوفها، فتغتسل وتذهب، تحمل زُفرة الدم وتذهب، رهبة الضريح لا
تقاوم في اليوم الثالث، هناك الجحيم على حقيقته، اللذة والعقاب في اتون مظلم. تخاف
الاثم وتلتذّ بالخوف منه، لأن الرغبات محرّمة، ومباحة بقوة التحريم، والرجال
يحومون مثل النسور الجائعة، تحّس الجوع في عيونهم، يتبخر من نظراتهم، وعندما يشتدّ
الزحام تشّم عطورهم ورائحة عرقهم، ثم تحسّ بطونهم وأفخاذهم البدينة تلتصق بها،
تضغط على امتداد قفاها فتستسلم، تسترخي وتتمنى أن يدوم الزحام، أن تلّفها غشاوة
سميكة تحجب الرؤية عن الأوجاع
الحارة في جسدها، وبغتة يصرخ النداء في رأسها المنتشي، فتجفل وتبتعد، لا تذهبي الى
الضريح وأنت ...! تزعق وراءها النواميس، ملعونة، ملعونة بما تحملين من رغبة،
مرجومة الى آخر يوم من حياتك بسبب الشهوة المحرّمة، لن يكون لك شفيع منذ اليوم وقد نجّستِ مراقد
الشفعاء، حكمتِ على جسدك بالتيه، فلن يجد المتعة أو الحبّ مع أي رجل!
لهالة التحريم نفق سرّي ينفتح
على الاباحات، فلماذا تُدمغ روحها باللعنة، لماذا تعاقب بقدر لا يتغير، بذنب لا
يقبل الغفران؟ لماذا أصبحت اللعنة صنواً لذاتها، تحملها أينما ذهبتْ، ولا تدري
الآن، وهي تراقب الهندية تقرفص أمام البانديت، ان كان ذاك الاثم هو الذي أنزل
الخواء والجوع في جسدها، أم أن تشبقها هو الذي استجلب عليها اللعنات؟
رشق البانديت جبهة المرأة
بالمياه المقدسة، فخشخشت القلائد والأساور والأقراط، وترجّعت كلمات التبريك
الغامضة في أرجاء المعبد.
كانت مشدودة، أبعد من السحر
الذي توحي به حركات البانديت، الى مشاعر الخوف الكامنة في أعصابها. هجمت على
خيالها، لتهّز أوتار قلبها، صورة رجال الضريح بعباءات الجوخ، يطوفون مثل الخفافيش
بين الزوار، يخترقون الحشد أو يذوبون فيه تميزهم عن بقية الزوار وجوه تشع
بالعافية، يعتاشون على الجروح القديمة، خدود مرتاحة يفيض منها الرفاه والإرتواء من
النوم، وبحذاء الجدران تدور الذئاب الأخرى، تتدلى ألسنتهم إلى الأرض ما إن تتشمم
الرائحة الطرية، تحس لعابهم الحار يسيل على رقبتها، فوق صدرها، إلى أن تبرد
النيران، يهدأ جنون الحواس، ثم تتسلل يد جريئة لتفرك
ثديها الصغير، فتشعر بالألم يمتد، عبر السنين والأيام، إلى جلستها الحالية بين
أحمد وسمير وتهليل البانديت.
سمير يخافها، تقرأ أوردة الشك
في عينيه، يخفيه لكنها تراه، لا تستطيع أن تفعل شيئاً حياله، ولا حيال ذاتها
المتبوعة باللعنات، الهاربة من فزع مقيم في داخلها، لا تعرف سبيلاً إلى الخلاص منه، ولا توجد هدنة رحيمة بين شعائره
وبين متطلبات جسدها، وهؤلاء الهنديات، تساءلت
عيناها المتوقدتان، هل بينهن من خادعت وجاءت تخفي دثار الدم بين ساقيها؟
إن الوقوف ضمن صف واحد لا
يسمح بالإحتكاك بين الرجال والنساء، أتراه، بوذا، فهم استبدادا اللحم، فاقترح
زيارته في طابور ليمنع الإغراء؟
كل رعشة بخطيئة، كل رغبة
يقابلها إثم يدور في فضاء الأبدية، والزحام هناك، زحام مواسم الآلام والتكفير عن
ذنوب الأسلاف بالعويل ولطم الصدور يرفع المرأة، العذراء والمتزوجة، ثلاثة أقدام عن
الأرض، الجسد يرتعش والظهر ينفتح على المتعة، بينما الصراخ يرن في أذنها وجسدها:
لا تذهبي إلى الضريح في أيام العادة...، يتغلل الدوي في الأعماق، ويلازمها بقية
حياتها.
الأخريات لا يكترثن، ينسين ما
إن يعدن إلى البيت، بينما تبقى أحاسيسها المرهفة، عواطفها الرقيقة، وحدها، تخاف
وتتعذب.
لو لم يُقتل الراقد بالذبح
الشنيع، فكرت عبر تهويمات خيالها المضطرب. لو لم يمرغ وجهه بتراب المكائد
والأحقاد، هل كانت خطايا جسدها بهذه القسوة؟
لا يمكنها السيطرة على رغبات
جسدها، وفي أعماقها لا تريد ذلك، لا تريد حرمانه الإرتواء من إنجذاب الرجال إليه،
من المرور عبره إلى الحياة السرية للرجال ومتعها، لأن هذا مغروس فيها، يمثل حقيقة
طبيعتها، وأهم ما يغريها في الحياة، فلماذا تغضب النواميس منها، لماذا يستنزل
الموتى اللعنات عليها ليغرقوا نهارها في القلق والخوف، ما إن تنتهي أفراح ليلها؟
- عفاف!همس سمير قرب أذنها. هل
نخرج؟
- ماذا؟ سألت بصوت مرتعش، بعيد.
حتى اسمها يذكرها بانشطار ذاتها، اُختير ليكون على مقربة مهلكة من الخطيئة، على
تماس قلق مع إغوائها.
فردية، منطوية على أسرارها
الصغيرة، تقول عنها أمها، وتخافها بسبب ذلك.
الشيطان نفسه لا يعرف
أفكارها، تعلق خالتها. ابقي عينك عليها، وسمير يتضايق من إصرارها على إخفاء
علاقتهما، يشعر، لكنه لا يجرحها بإعلان رأيه، أنها توزع أسرارها بين العديد من
الرجال، بينما روحها، وسط مخاوف وشكوك الآخرين هائمة في خواء موجع، في قلق مزعج من
هفوات جسدها في فترة صباها، وغموض العقاب الذي ظل يلاحقها.
تساءلت، وقد انتبهت للمرة
الأولى إلى سذاجة ألوان الخرز والقلائد والأساور والأقراط على صدر البانديت ورأسه
وذراعيه: "من الذي يضع قوانين الإثم، الأحياء أم الأموات؟"
تعلمت أن جينات المرأة
وخلاياها تشكلت، وتقرر جنونها وهوسها ورغباتها منذ بلايين السنين، قبل أن توجد
أمها أو يولد صاحب الضريح، مع ذلك استسلمت للعنة، ولم تجد في نفسها القدرة على
الخلاص من أثرها الوحشي، الذي حولها إلى روح غارقة في العذاب، لا تستقر عواطفها
على خيار.
لم تفهم ما قاله سمير منذ
قليل، إلامَ أشار، ماذا أراد منها، وبدأت تتضايق من وطأة الجو على قلبها، من
الشموع الخافتة التي تكتم أنفاسها، إلا أنها عاجزة، مشولولة، غير قادرة على فك
ساقيها المتقاطعتين، وتهويمات البانديت المشعوذة، مصحوبة بقعقعة الخرز والأصداف، تعود
بها، قسراً، إلى خطايا الرغبات المشبوبة، إلى الآلآم والأحزان المنتقمة، فتشعر
بالحاجة إلى الهرب، لكنها مخدرة تماماً، لا تملك السيطرة على أعضائها، ولا على
مشاعرها، بينما سمير وصاحبه مشغولان بالفرجة، مستغرقان في متعتهما.
تخيلته ينتزع نفسه منها وينقلب ليغرق في
النوم والشخير، بينما يبدأ صحوها ليمخر في أدغال الليل، فنزلت الدموع من عينيها،
ثم هبط رأسها على صدرها وراحت تنشج وتئن، وبالتدريج تحول أنينها إلى نواح متحشرج،
طويل، مثل غناء صعب يطفح من صدر مذبوح.